ذكرى إلغاء الخلافة- حراك إسلامي ووحدة مفقودة

المؤلف: عطا المنان بخيت11.07.2025
ذكرى إلغاء الخلافة- حراك إسلامي ووحدة مفقودة

في الثالث من مارس/آذار من هذا العام، استذكر المسلمون مرور قرن كامل على إلغاء الخلافة العثمانية وإعلان نهايتها، وهو حدث جلل شكّل منعطفًا حاسمًا في تاريخ الأمة الإسلامية. فبعد قرون مديدة، وجد المسلمون أنفسهم بلا دولة مركزية جامعة، تدافع عن مصالحهم وتحمي هويتهم وتحافظ على حقوقهم. صحيح أن الخلافة العثمانية لم تكن الصورة المثالية للحكم الرشيد، إلا أنها مثّلت رمزًا سياسيًا شامخًا، ووحدة للعالم الإسلامي برمته، من طنجة في المغرب الأقصى إلى جاكرتا في أقصى الشرق.

على امتداد تاريخهم، عاش المسلمون تحت راية الخلافة بمختلف صورها وأشكالها، بدءًا بالخلافة الراشدة، مرورًا بالخلافة الأموية، ووصولًا للخلافة العباسية بتجلياتها المتنوعة، وصولًا إلى الخلافة العثمانية. لذا، كان قرار إلغاء الخلافة بمثابة صدمة عنيفة وهزيمة نفسية، أثارت موجة من الحزن والاستياء العارم في أرجاء العالم الإسلامي. هذه الذكرى الموجعة تستحق منا وقفة مطولة للتأمل واستخلاص الدروس والعبر، ومن المؤسف حقًا أن تمر هذه الذكرى دون تدبر عميق لمعانيها ودلالاتها. وهذا ما نود أن نلقي عليه الضوء في هذا المقال.

الحراك الإسلامي لإحياء الخلافة

لقد قدمت الدولة العثمانية إسهامات عظيمة للإسلام والمسلمين في مختلف أصقاع المعمورة، ويصعب أن نجد مدينة إسلامية تخلو من بصمات العثمانيين وجهودهم المباركة. فقد عملوا جاهدين على مدى أربعمائة عام على صون حمى الدين الإسلامي، في ظل بيئة داخلية مضطربة وصراعات دولية استعمارية طاحنة، لا سيما في القرن الأخير من عمر الخلافة.

لقد ساهمت الدولة العثمانية بقدر كبير في تعزيز التقدم المادي والعسكري والاقتصادي للعالم الإسلامي، وحافظت على تماسك المسلمين وقوتهم، رغم التحديات الجسام التي واجهتها على الصعيدين الداخلي والخارجي.

على الرغم من الضعف الذي دبّ في أوصال الخلافة، والتمزق الذي أصاب العالم الإسلامي نتيجة للاستعمار الغربي المتزايد منذ منتصف القرن التاسع عشر، ظل المسلمون متمسكين بولائهم للخلافة العثمانية. لذا، كان قرار إلغاء الخلافة بمثابة فاجعة مؤلمة أحدثت حالة من الفوضى والاضطراب في جميع أنحاء العالم الإسلامي، مما أدى إلى ظهور حركات نشطة لإحياء الخلافة من جديد، وكانت هذه الحركات على اختلاف وسائلها ومناهجها متفقة في الهدف الأسمى.

بذل قادة بارزون في العالم الإسلامي جهودًا مقدرة لإحياء الخلافة، كما لعب المجتمع المدني دورًا جوهريًا في هذا المسعى النبيل، من خلال مؤسسات ثقافية وعلمية مثل الأزهر الشريف، أو تجمعات مدنية إسلامية كما تجلى في جهود المسلمين في الهند والبلقان وأفريقيا وآسيا وأوروبا، وحتى في أماكن بعيدة مثل اليابان وإندونيسيا. واستمرت جهود المجتمع المدني الإسلامي لإحياء الخلافة حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية.

أسهم عدد وافر من المفكرين والكتّاب المرموقين في توجيه الرأي العام وتقديم الأفكار والرؤى المبتكرة لإحياء الخلافة الإسلامية، وشهدت الساحة الفكرية مساهمات قيمة من كتّاب ومفكرين ذوي وزن أمثال جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، والكواكبي، ومالك بن نبي، وغيرهم الكثير.

لقد قدم هؤلاء المفكرون رؤى وأفكارًا لا تزال تحتفظ براهنيتها وإلهامها للأجيال القادمة، وتبنى المفكر الكبير جمال الدين الأفغاني فكرة الجامعة الإسلامية منذ أواخر القرن التاسع عشر، وفي القرن العشرين طرح المفكر الفذ مالك بن نبي فكرة إقامة كومنولث إسلامي. ومن بين أبرز العلماء المسلمين الذين اهتموا بقضية الخلافة، الدكتور عبد الرزاق السنهوري، الذي سعى جاهدًا لتقديم رؤية عملية معاصرة لإحياء الخلافة.

كرس الدكتور السنهوري رسالته للدكتوراه في جامعة السوربون عام 1926 لموضوع الخلافة، وخلص إلى أن الواقع السياسي للعالم الإسلامي في تلك الحقبة، في ظل الصراعات الاستعمارية المحمومة، لا يسمح بإقامة خلافة جديدة، ولكن العالم الإسلامي الذي بدأ يتشكل في صورة دول قومية يمكن أن يجتمع تحت لواء منظمة سياسية شاملة، تكون بمثابة البديل للخلافة.

أطلق السنهوري على هذه المنظمة اسم "عصبة الأمم الشرقية"، وقد مهدت أفكاره الطريق فيما بعد لإنشاء منظمة التعاون الإسلامي الحالية التي تأسست عام 1969، والتي تتخذ من مدينة جدة مقرًا مؤقتًا لها إلى حين تحرير القدس الشريف.

على الرغم من التغيرات السياسية العميقة التي شهدها العالم الإسلامي بعد الحرب العالمية الثانية، وترسخ مفهوم الدولة القومية، وظهور دول مستقلة في جميع أنحاء العالم الإسلامي الذي كان يخضع في السابق للسلطة السياسية أو الروحية لخليفة واحد، إلا أن قضية وحدة العالم الإسلامي ظلت حاضرة وملحة.

قامت دول عديدة مثل باكستان وماليزيا والصومال ومصر والمغرب وغينيا بأدوار فعالة وقدمت مبادرات وأفكارًا مبتكرة لإنشاء كيان يمثل وحدة العالم الإسلامي، وأثمرت هذه الجهود عن تأسيس تجمعات شعبية لا تزال فاعلة، مثل مؤتمر العالم الإسلامي، ورابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة. إلا أن الجهد الأكبر في هذا المجال ينسب إلى الملك فيصل بن عبد العزيز، الذي أثمرت جهوده عن عقد أول قمة إسلامية تاريخية في مدينة الرباط عام 1969، والتي أسفرت عن إنشاء منظمة التعاون الإسلامي، وهي أكبر منظمة سياسية جماعية في العالم الإسلامي، وتضم في عضويتها 57 دولة.

عصر الخلافة الأوروبيّة

هذه الخلفية التاريخية الموجزة تؤكد أن فكرة الخلافة كانت راسخة في الوعي الجمعي للمسلمين، ولم تكن مفروضة عليهم من الخارج على الإطلاق، بل إن الفكر السياسي السائد في تلك الحقبة كان قائمًا على مفهوم الأمة بمعناه الواسع الشامل، وليس على مفهوم الدولة بحدودها الضيقة، كما نعرفها اليوم كنتيجة لتطور الفكر السياسي الغربي.

لم يكن قرار حل الخلافة وليد اللحظة، بل كان نتاج عمل فكري ممنهج ضمن حملة الغزو الفكري والثقافي والعسكري التي شنتها الدول الأوروبية الغربية ضد العالم الإسلامي، وقد نشطت القوى الاستعمارية في الترويج لفكرة الدولة القومية، بغية إضعاف فكرة الأمة التي قامت عليها الخلافة.

كان الهدف النهائي من حملة الترويج للدولة القومية على الطراز الأوروبي هو تفتيت وحدة العالم الإسلامي وإضعاف شوكته، فتحول العالم الإسلامي إلى دويلات متفرقة، مما سهل مهمة الانقضاض عليه من كل جانب، وهكذا سقطت دول وكيانات إسلامية عديدة عندما سقطت السلطنة العثمانية.

المثير للدهشة أن القوى الأوروبية التي قاومت الخلافة وحاربت فكرة الوحدة الإسلامية، وروّجت للدولة القومية في العالم الإسلامي، سرعان ما بدأت في البحث عن وسائل لتوحيد دولها لمواجهة تحديات ما بعد الحرب العالمية الثانية. وهكذا، شرعت دول أوروبا منذ منتصف القرن العشرين في العمل على تشكيل خلافة أوروبية.

بدأت فكرة الخلافة الأوروبية باتحاد الفحم الحجري، وتطورت حتى وصلت إلى إنشاء الاتحاد الأوروبي، الذي أصبح المظلة الجامعة لجميع دول أوروبا تقريبًا. ومع قيام الاتحاد الأوروبي، بدأت أوروبا فعليًا في الانتقال من ضيق الدولة القومية بحدودها السياسية والاقتصادية، إلى سعة الاتحاد الذي يفضي إلى الوحدة تحت مظلة الاتحاد الأوروبي.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة